البصرة اليوم
من إسطبل عثماني إلى مركز للبهارات..سوق ” موسى العطية” ذاكرة بصرية تقاوم النسيان

قناة البصرة BSR365 – خاص
رغم توسع البصرة وافتتاح المولات الحديثة وتغير أنماط التسوق، تحافظ بعض الأسواق على حضورها كشاهد على تاريخ لا يريد أن يختفي. سوق موسى العطية في العشار واحد من هذه الأماكن التي لم تستسلم للزمن.
جذور ضاربة في التاريخ
المكان شهد تحولات عبر قرون متعاقبة. ما كان إسطبلاً لخيول العثمانيين قبل 150 عاماً، تحول إلى فنادق للمسافرين، ثم إلى سوق للتجارة. كل مرحلة تركت بصمتها على المكان.
عدنان السوداني، العطار السبعيني الذي يعمل هنا منذ 1979، يحمل في ذاكرته طبقات من تاريخ هذا المكان. “العمارة التي أمامنا، عمارة موسى العطية، صارت وقفاً للإمام الحسين (عليه السلام). من هنا أخذ السوق اسمه”.
موسى العطية وصل من القرنة إلى البصرة عام 1897. اشتغل بتجارة الحبوب حتى صار من كبار تجار المدينة. قرر استثمار أمواله في هذا المكان المطل على شط العرب، قريباً من منطقة (ميناء) الداكير التي كانت نافذة البصرة على العالم.
عصر الازدهار
مع نهاية الحكم العثماني ووصول البريطانيين عام 1914، شهد السوق نقلة كبيرة. الجنود الهنود في الجيش البريطاني نظموا علاقات تجارية قوية، خاصة في مجال البهارات والتوابل. هنا تعلم العطارون البصريون أسرار الخلطات التي ما زالوا يطبقونها حتى اليوم.
“كان عندنا عطارون مشهورون مثل جليل العطار”، يقول عدنان. “الناس تأتي إليه من الكويت والبحرين من أجل خبرته بالأدوية العشبية”.
الفترة الذهبية للسوق كانت بين 1987 و1995. الشركات الأجنبية تعمل في مشاريع البنية التحتية في العراق. موظفوها من جنسيات مختلفة يتسوقون بانتظام من السوق.
“الروسيون كانوا مهووسين بقلم الشفاه السحري (الديرم)”، يتذكر عدنان بابتسامة. “يشترون 20-30 دستة. السعر 10 دنانير للدستة، وبالنسبة لهم كان رخيصاً جداً”.
مقهى التجار: ملتقى الذاكرة
كان مقهى التجار، الذي سقط عام 1985، أكثر من مجرد مكان لشرب الشاي. كان نقطة التقاء لتجار السوق وعطاريه. المعلومات التجارية تتبادل، والصفقات تتم، والصداقات تتكون.
“كنا نجلس فيه كل صباح”، يقول عدنان. “والدي وجدي وأعمامي وكل عطاري السوق. عمي كان يبيع المشاوي”.
هذا المقهى كان جزءاً من نسيج اجتماعي أوسع. منطقة العشار في تلك الفترة لم تكن مجرد منطقة تجارية، بل مجتمعاً متكاملاً له تقاليده وطقوسه اليومية.
العطارة: مهنة وعلم
في زمن تطورت فيه الصيدلة والطب الحديث، تبقى العطارة مهنة لها زبائنها المخلصون. عدنان علّم ولديه حسن وعباس أسرار المهنة التي تحتاج سنوات لإتقانها.
“العطارة ليست لعبة”، يقول عدنان. “خلطة الرأس تحتوي مواد معينة، والسفوف للبطن 24 مادة، والمضغة للأطفال الرضع 18 مادة مطحونة”.
زبائن يأتون من أحياء بعيدة للحصول على علاجات لحصى الكلى أو مشاكل الهضم بمختلف تسمياتها المحلية. وصفات تناقلتها الأجيال وأثبتت فعاليتها، كما يروي في حديثه لقناة البصرة BSR365.
التحديات الجديدة
بعد 2003، واجه السوق تحديات من نوع جديد. دخول الهواتف المحمولة والسيارات والإنترنت غيّر عادات الاستهلاك. الموظف “صار يوفر راتبه لشراء سيارة أو جهاز بدلاً من إنفاقه في الأسواق التقليدية”.
“المنتجات العراقية اختفت”، يتحسر عدنان. “فرشاة شيزر، ومعجون سولاف، وعطر الزوراء. كلها كانت منتجات جيدة تنافس المستورد”.
افتتاح المولات الحديثة في البصرة قدم بديلاً مريحاً للتسوق: تكييف، ومواقف سيارات، ومتاجر متنوعة تحت سقف واحد. لكن هذا لم يقض على الأسواق التقليدية بالكامل.
الصمود والاستمرار
اليوم، يحافظ سوق موسى العطية على جزء من حيويته. العائلات التجارية القديمة ما زالت موجودة: أبو زينب جميل مالكي، وحجي عبد الحسين، وبيت ناصح، وبيت مؤيد الأسدي.
الزبائن تغيروا لكنهم لم يختفوا. من يبحث عن بهارات طبيعية أو أدوية عشبية أو أقمشة تقليدية ما زال يجد ضالته هنا. العلاقة بين التاجر والزبون هنا شخصية، مبنية على الثقة والخبرة المتراكمة.
ما وراء التجارة
السوق اليوم أكثر من مجرد مكان للبيع والشراء. إنه مستودع ذاكرة لمدينة شهدت تحولات جذرية عبر العقود. كل محل يحكي قصة، وكل عطار يحمل خبرة أجيال.
الحديث مع عدنان السوداني ليس مجرد حوار مع تاجر، بل رحلة عبر تاريخ البصرة الحديث. من الحكم العثماني إلى الانتداب البريطاني، ومن الملكية إلى الجمهورية، ومن الحروب إلى السلام، وتقلب أحوال الزمان.




