البصرة اليوم
نخيل البصرة “يزعل” ويرحل:معمّر البساتين يروي قصة أرض تبدلت ملامحها

البصرة BSR365 – خاص
ليست مشاعر الحزن والأسى حكراً على البشر في قضاء أبي الخصيب؛ فحتى أشجار النخيل الباسقة، كما يروي بحسرة ابن القضاء العاشق لأرضه أبو محمد، قد “زعلت”. زعلت حتى حزمت جذورها وهاجرت، تاركةً وراءها أرضاً كانت يوماً جنةً غنّاء، لتستقر في “البر” القاحل. هذا “الزعل” ليس مجرد تعبير مجازي، بل هو خلاصة قصة تحول بيئي واجتماعي عميق يرويها أبو محمد، شاهد العيان الذي عاصر الزمنين: زمن الخير الوفير والمياه العذبة، وزمن الملوحة والجفاف وتغير النفوس.
أبو الخصيب: بين ماضٍ زاهر وحاضر متغير
يجلس أبو محمد، الرجل الذي نحتت تجاعيد وجهه حكايات السنين، ويبدأ حديثه عن أبي الخصيب كمن يفتح سِفراً قديماً. “بالأول كانت أرضاً زراعية،” يقول لقناة البصرة BSR365 بصوت يحمل حنيناً جارفاً، “هسه صارت أرض مدينة.” الفرق شاسع بين الصورتين؛ فالماضي كان يعني “أرض ماي حلو”، حيث كانت الزراعة تزدهر دون عناء. الحمضيات، السدر، وقبل كل شيء النخيل، كانت تنمو وتثمر بوفرة بفضل المياه العذبة وغزارة الأمطار التي كانت تترك أثراً عميقاً في الأرض.
لكن الحال تبدل بشكل كبير. “هسه انقلب الماي إلى مالح” يتابع أبو محمد شارحاً نقطة التحول الجذرية. زحف الملح على المياه العذبة، وشحت الأمطار، فتحولت الزراعة إلى مهمة شبه مستحيلة. “الحمضيات كلها تموت، السدر والنخيل يؤثر فيها الملوحة.” لم تعد الأرض تحتمل زراعات الماضي بسهولة.
رحيل النخيل “الزعلان”
الأثر الأكبر لهذا التغير كان على أيقونة المنطقة ورمز هويتها: النخلة. يصف أبو محمد بعيون حزينة كيف “زعلت النخلة” بسبب هذه الظروف القاسية. هذا الزعل لم يكن صامتاً، بل تجلى في هجرة جماعية غيّرت ملامح المكان. “أشوف النخل تحول منا للبر،” يقول مشيراً إلى الانتقال الكبير نحو المناطق الصحراوية. لم تعد هجرة فردية، بل أصبحت ظاهرة تضم الآلاف والملايين من النخيل التي تُقتلع من أرضها الأم لتُزرع في البر بحثاً عن بيئة أقل ملوحة.
يذكر أبو محمد أمثلة لأشخاص يمتلكون آلاف النخيل في البر، وهو نفسه يشارك في هذه العملية، وكأنه يساعد النخيل على إتمام رحلة “زعله”. حتى النخلة التي تبقى وتُهمل تنتج ثمراً رديئاً (“حشف يبيعونه بربع الكيلو”)، كأنها تعبر عن استيائها الأخير قبل أن تستسلم للموت واقفة.
تغير السمك.. وتغير النفوس
لم يسلم الصيد أيضاً من هذا التحول العميق. يتذكر أبو محمد “أيام الصبورة”، السمكة الشهيرة التي كانت رائحتها تملأ الأجواء عند شيّها، وكانت دسمة لدرجة أن “خمس صبورات يطفئن التنور” من وفرة دهنها، على حد تعبيره. أما اليوم، فالاختلاف صارخ: “تشوي صبورة من هنا لهناك وريحتها ما تطلع.. الصبورة ما بيها دهن.”