البصرة اليوم
حين يقاوم القطن زمن الإسفنج: قصة آخر النَدّافين في الزبير
خاص – قناة البصرة BSR365
في كل غرزةٍ يخيطها، وفي كل قطعة قطنٍ يُندّفها، يحفظ عباس علي المسلم جزءاً من هوية مدينته. منذ عام 1956، وهو يمارس مهنة الندافة في سوق الزبير، ليس فقط كحرفة للعيش، بل كرسالةٍ في حفظ التراث.
هو آخر حلقة في سلسلة طويلة من الحرفيين الذين حوّلوا القطن الخام إلى تحفٍ يدوية وفنٍ يُحكى.
“بدأتُ العمل في سوق النَدّافين قبل ثورة عبد الكريم قاسم بسنتين،” هكذا يبدأ عباس حديثه لقناة البصرة BSR365، مستذكراً أيام الازدهار. “كنا مجموعة كبيرة،” يضيف مستعرضاً أسماء زملاء المهنة: “جمعة داود القطان، محمد حجي عواد، أحمد المانع، عبد الله المانع، عبد الواحد المانع، وحجي مجيد الدليجان.” في تلك الأيام، كانت عائلات بأكملها تحترف هذه المهنة، مثل عائلة المرهون التي اشتهرت بعبد الغني وحجي علي وأحمد المرهون.
كان القطن في ذلك الوقت عنصراً أساسياً في حياة الناس. يشرح عباس: “كان الجميع يستعمل القطن، لم يكن لدينا إسفنج ولا ديباج.” وقد تنوعت أصناف القطن بين اللوكا، وقطن الزيوت، وأبو الخيط بنوعيه الأسمر والأبيض. كانت الموصل المصدر الرئيس لقطن اللوكة (الالوكة)، المعروف محلياً باسم “قطن بغداد”.
في حديثه عن الأجور، يستذكر عباس: “كنت أخيط اللحاف كاملاً ويعطونني عليه مئة فلس،” مضيفاً بنبرة حنين: “وكان للمئة فلس قيمتها آنذاك.” كان الطلب على المنتجات القطنية كبيراً، من الفرشات إلى اللحف والوسائد، وكان الزبائن يأتون من مختلف المناطق، من الفاو إلى بغداد، وحتى من الكويت.
امتدت تجربة عباس المهنية خارج حدود البصرة، حيث عمل في الكويت نَدّافاً لدى عائلة القطان المعروفة، متنقلاً بين عدة ورش. “عملت هناك لفترات متفاوتة، ستة أشهر أو سنة، ثم أنتقل إلى ورشة أخرى،” يقول عن تجربته. هذا الامتداد الخليجي لم يتوقف، إذ لا يزال عباس اليوم وجهة مفضلة للخليجيين الذين يقصدونه في الزبير طلباً لمهارته في النقش على اللحف. “لديهم طلب خاص على نقوشي المميزة في اللحف،” يوضح عباس.
ويكشف عباس عن تحديات المهنة في الوقت الحاضر. “الآن سوق النَدّافين يكاد ينقرض،” يقول بأسى، “لم يبقَ إلا القليل منا، أكثرهم اعتزلوا المهنة.” ويعزو ذلك إلى تراجع توفر القطن المحلي، وتغير أذواق المستهلكين مع ظهور البدائل الصناعية.
يتميز عباس بحسه الفني العالي في عمله، خاصة في النقش على اللحف. كل قطعة يصنعها تمثل لوحة فنية متكاملة، بتصاميم متنوعة مثل “الوردة” و”درب الحية” و”البقلاوة”.
امتد حسه الفني إلى مجال التمثيل، حيث تعاون مع قناة الطوبة في أعمال درامية تراثية، منها “طيبة الجار” و”ليلة من ليالي العمر” و”ليلة من ليالي الزبير الممطرة” و”شق العمر” و”البراحة”. يقول بفخر: “أنا من محبي التراث،” مؤكداً دور هذه الأعمال في توثيق عادات وتقاليد أهل الزبير.
تروي أدوات المهنة نفسها قصة التحول في صناعة الندافة. يصف عباس بحنين الأدوات التقليدية: “كنا نستخدم الجوز وتشك النَدّاف.” ويشرح عملية “الترويض” للقطن، حيث كان الصغار مثله وأخيه يستخدمون العصي لتقطيع وتجهيز القطن قبل ندفه. يضيف متأملاً: “الآن أصبح كل شيء آلياً،” في إشارة إلى التحول التقني الذي غيّر وجه المهنة.
ومن جماليات المهنة، كما يؤكد عباس، ارتباطها بالراحة والطمأنينة. “جلسة النَدّاف مريحة وجميلة،” يقول موضحاً: “عندما يتعب الإنسان، أين يجد راحته؟ على الفراش متكئاً على الوسادة، وأين يجدها بأفضل صورة؟ عند النَدّاف.”
“لا أستطيع ترك هذه المهنة،” يختم عباس حديثه. ورغم حصوله على رخصة قيادة عامة، فضّل البقاء في مهنته الأصلية.