بين الخبز والشعير والزواج..حكاية أبو غايب في دار المسنين

داخل أروقة دار المسنين في البصرة، يجلس أبو غايب، رجل تجاوز السبعين من العمر، يرسم حياته بكلماتٍ عفوية وذكريات محملة بثقل السنين. بين تلك الزوايا التي أصبحت مسكنه، يحكي أبو غايب عن ماضيه، عن أحلامه التي شكلتها شوارع البصرة وأزقتها، وعن شبابه الذي قضاه في جولاتٍ على ضفاف شط العرب وفي ساحة أم البروم.

يستعيد ذكريات تلك الأيام قائلاً: “المبادرات التي نقوم بها هنا، مثل الرحلة الأخيرة إلى أحد منتجعات البصرة، تذكرني بأيام زمان عندما كنت أتجول في الشوارع كأي شابٍ حرّ. هناك شعور بالراحة يعيدني إلى شيء من نفسي القديمة.”

لكن في خضم هذه الذكريات، يعترف أبو غايب أن احتياجاته الأساسية هنا متوفرة: طعام، حديقة، وتلفزيون. “الأمور الأساسية موجودة، لكن كثيرًا مما أحتاجه هنا يبقى في داخلي، صعب الوصول إليه أو التعبير عنه.” ربما، كما يضيف، كان سيشعر بحرية أكبر لو أنه عاش في أوروبا، حيث يصف حياته المحتملة هناك قائلاً: “لو كنت ساكنًا في أوروبا لم أكن لأتزوج، حتى لو أكلت الخبز والشعير. لا يهمني”.

أبو غايب هو رجل اختار البقاء منفصلًا عن الآخرين حتى في دار المسنين، واصفًا حياته هناك بأنها انعكاس لطبيعته المستقلة. “الله خلق والدي على حدة، وأنا خلقني وحدي”، يقولها بصوت يحمل شيئًا من الافتخار والاستسلام معًا. “طوال حياتي كنت أعيش بطريقتي الخاصة، بأشيائي الخاصة، بالراديو الذي كنت أستمع إليه، وبأصدقائي القلائل، لم يتجاوز العدد سبعة أصدقاء طيلة عمري.”

ولكن، خلف ملامحه الهادئة، يعترف أبو غايب بمعركة داخلية يعيشها كل يوم. “وجهي وجه آدمي، لكن داخلي لا. أشعر بكآبة وعقدة نفسية لا أستطيع البوح بها. الفرق بيني الآن وما كنت عليه كبير.”

في لحظات شروده أمام الصور القديمة، يستحضر شابًا مفعمًا بالحيوية، لكنه الآن رجل يصف أيامه بأنها جافة كخبز قديم، ولكنها، رغم ذلك، لا تزال تحوي بقايا الذكريات العذبة.