زاويــــة 365
البصرة الجديدة .. مقال في زاوية 365 … علي محمود خضير
ليست البصرة مدينة فحسب. البصرة برهان إنساني صغير على فرادة الحياة والكائن البشري على حد سواء. على هذه البقعة من الأرض اجتمع على نحو لا يتكرر، صورة من التجربة الإنسانية الخاصة، وصورة من التمظهر الطبيعي الخاص. هي المدينة العراقية الوحيدة التي تطل على ثلاث دول. والوحيدة التي تمتلك بحراً، وتجمع حدودها ظلال البساتين بحافات الصحراء. وهي توأم التاريخ فنًا ولغة وفكرًا وأدبًا. وهي مهد إنسانها -الأعجوبة بصور المروءة الإنسانية طيبة وتصالحًا وقبولًا للآخر.
البصرة حالة خاصّة. والبصريون حالة خاصّة. لذلك فإن المدينة وأهلها ينتظرون الكثير من أولي أمرهم. ليس لأنها المدينة الأعلى حرارة في العالم، ولا لكونها واحدة من أكثر خمس مدن تأثراً بالتغير المناخي وتداعياته، ولا لكونها الأشد تضرراً بتلوث الصناعات النفطية، ولكن كرمى لروح الأصالة التي تتنفسها شوارع وساحات وأزقة حملت أنفاس قادة الفكر والأدب والتاريخ منذ أول مسناة أطلت عليها فسيلها الأول حتى آخر تلميذ يركض الآن في حارات الزبير أو أبي الخصيب أو الدير.
إن البصريين اليوم يتطلعون إلى “البصرة الجديدة”. ليست الموجودة في الشعارات والخطب فحسب، بل الاستحقاق الطبيعي لمدينة حملت ضيم الحرب والموت منذ أربعة وأربعين عامًا، حتى استحالت كلها إلى جبهة مفتوحة وأرض حرام.
البصرة العصية على الموت تنهض بالقوة المجازية لعمقها في التاريخ العراقي، فاسم البصرة وحده يدافع عنها. وهي اليوم تبدو، أكثر من أي وقت مضى، على مدرج الإقلاع إلى أرض جديدة يتنفس فيها أبناؤها الهواء الذي يستحقون.
قد يبدو المشهد غائماً هنا أو هناك، نعم قد يبدو الجسد مثخنًا بسكاكين الحروب والفساد، وقد تبدو الخطوات وئيدة وبطيئة، لكن الجينات التي تحملها روح هذا الشعب قادرة على المفاجأة والخروج دائمًا من الأزمات. ذلك لأن الحروب، مهما طالت، استثناء في حياة الأمم. والمآسي مهما تكاثرت، فاصلة في كتاب حياتها، والمدن التاريخية الكبرى على موعد أبدي ومحتوم مع المجد وحده والنجاة وحدها.
أسألوا ثورة الزنج، أسألوا القرامطة والزط، أسألوا ضباط الجيش البريطاني عام 1914 و200.. يجيبوكم أن المدن الكبرى لا تموت.
وفي اللحظة تلك التي نتخلص فيها من فردية أحلامنا الشخصية لصالح تلك التي تجمعنا معًا، وتنجو بنا معًا، لحظتها، يمكننا القول أن البصرة الجديدة بدأت.
نحن اليوم بحاجة إلى تخطيط البصرة الجديدة، ولتكن ما وراء شط العرب نحو الشرق كما تتجه الحكومة المحلية حاليًا، أو ما وراء شط البصرة غربًا، لا فرق، المهم أن يتحقق التخطيط الجديد الواعي لأحياء جديدة، وثورة عمرانية وصناعية جديدة، وإصلاح جاد لمنظومة التعليم والصحة والخدمات، ليكون لأجيالنا القادمة مآل لا يشبه مآلاتنا المنحوسة.
إن البصرة الجديدة ليست محض خطابة تقريرية بقدر ما هي التماعة في عيون أبناء هذا الجيل الجديد الذي يحلم ويحقق أحلامه، وهي معنى يرتكز وينمو كل لحظة في غضون النشء الجديد. فكرة حقيقية تتجسد بعقول وسواعد أبنائها وبالإيمان المطلق بدورة التاريخ الطبيعية تلك التي تعيد للمظلوم دولته وترضى له ثانية أن يرسم ابتسامة فجر لا ينتهي من البناء والأمل.
طوبى لمن يسمع صوت الشعب ويلتحق بسفينته. طوبى لمن يحقق أحلامه ويطوي الأيام لتحقيقها.